الملتقى العلمي idaksahak

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

هذا الموقع يضم كل ما يخص مجتمع إدكصهك من علوم وفنون وثقافة وحضارة وتاريخ وسير علمائهم ونشاطاتهم الإجتماعية والثقافية


    شرح الأربعين النووية

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 6
    تاريخ التسجيل : 12/05/2014
    العمر : 34
    الموقع : https://www.facebook.com/talataye

    شرح الأربعين النووية Empty شرح الأربعين النووية

    مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء 13 مايو 2014, 18:57


    فتح القوي المتين
    في شرح الأربعين وتتمَّة الخمسين
    للنووي وابن رجب رحمهما الله



    تأليف
    عبد المحسن بن حمد العباد البدر


    الحمد لله مجزل العَطاء ومسبغ النِّعم، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ذو الفضل والإحسان والجود والكرم، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله سيِّد العرب والعجم، المخصوص من ربِّه بجوامع الكلم، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله أهل المكارم والشِّيَم، وعلى أصحابه مصابيح الدُّجَى والظُّلَم، الذين أكرمهم الله فجعلهم خير أمَّة هي خير الأمم، وعلى كل مَن جاء بعدهم مقتفياً آثارهم، وقد خلا قلبُه من الغلِّ للمؤمنين وسلِم.
    أمَّا بعد، فإنَّ من الموضوعات التي ألَّف فيها العلماء في حديث رسول الله أحاديث الأربعين، وهي جمع أربعين حديثاً من أحاديث رسول الله ؛ لحديث ورد في فضل حفظ أربعين حديثاً من أحاديث رسول الله ، ذكر النووي في مقدمة الأربعين له وروده عن تسعة من أصحاب رسول الله سمَّاهم، وقال: (( واتَّفق الحفاظ على أنَّه حديث ضعيف وإن كثُرت طرقُه ))، وذكر أنَّ اعتمادَه في تأليف الأربعين ليس عليه، بل على أحاديث أخرى، مثل قوله : (( ليبلِّغ الشاهد منكم الغائب ))، وقوله: (( نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها )) الحديث، وذكر ثلاثة عشر من العلماء ألَّفوا في الأربعين، أولهم عبد الله بن المبارك، وآخرهم أبو بكر البيهقي، وقال بعد ذكرهم: (( وخلائق لا يُحصون من المتقدِّمين والمتأخرين ))، وقال: (( ثم مِن العلماء مَن جمع الأربعين في أصول الدِّين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلُّها مقاصد صالحة رضي الله تعالى عن قاصديها، وقد رأيتُ جمع أربعين أهم من هذا كلِّه، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكلُّ حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدِّين، قد وصفه العلماء بأنَّ مدارَ الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك، ثم التزمتُ في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم، وأذكرها محذوفة الأسانيد ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها إن شاء الله ... وينبغي لكلِّ راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لِمَا اشتملت عليه من المهمَّات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لِمَن تدبَّره )).
    والأحاديث التي جمعها النووي ـ رحمه الله ـ اثنان وأربعون حديثاً، قد أطلق عليها أربعين تغليباً مع حذف الكسر الزائد، وقد رُزق هذا الكتاب للنووي مع كتابه (( رياض الصالحين )) القبول عند الناس، وحصل اشتهارهما والعناية بهما، وأوَّلُ كتاب ينقدح في الأذهان يُرشَد المبتدئون في الحديث إليه هذه الأربعون للإمام النووي رحمه الله، وقد زاد ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ عليها ثمانية أحاديث من جوامع الكلم، فأكمل بها العدَّة خمسين، وشرحها بكتاب سَمَّاه: (( جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم ))، وقد كثرت شروح الأربعين للإمام النووي، وفيها المختصر والمطوَّل، وأوسع شروحها شرح ابن رجب الحنبلي رحمه الله، وقد رأيتُ شرح هذه الأربعين مع زيادة ابن رجب شرحاً متوسِّطاً قريباً من الاختصار، يشتمل شرح كلِّ حديث على فقرات، وفي ختامه ذكر شيء مِمَّا يُستفاد من الحديث، وقد استفدت في هذا الشرح من شروح النووي وابن دقيق العيد وابن رجب وابن عثيمين للأربعين، ومن فتح الباري لابن حجر العسقلاني، وسمَّيتُه: فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمَّة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله، والمتين من أسماء الله، قال الله عزَّ وجلَّ في سورة الذاريات:  •   •     ، ومعناه: شديد القوة، كما جاء في كتب التفسير، وإنِّي أوصي طلبة العلم بحفظ هذه الأحاديث الخمسين، التي هي من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بأصله، إنَّه سميع مجيب، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيِّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


    * * *

    الحديث الأول
    عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب قال: سمعتُ رسول الله يقول: (( إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه )).
    رواه إمامَا المحدِّثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصحُّ الكتب المصنَّفة.
    1 ـ أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرُهم، وقد تفرَّد بروايته عن عمر: علقمة بنُ وقاص الليثي، وتفرَّد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرَّد عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر الآخذون عنه، فهو من غرائب صحيح البخاري، وهو فاتحته، ومثله في ذلك خاتمته، وهو حديث أبي هريرة (( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ... )) الحديث، وهو أيضاً من غرائب الصحيح.
    2 ـ افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبَهم به، منهم الإمام البخاري افتتح صحيحه به، وعبد الغني المقدسي افتتح كتابه عمدة الأحكام به، والبغوي افتتح كتابيه مصابيح السنة وشرح السنة به، وافتتح السيوطي كتابه الجامع الصغير به، وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه (1/35): (( فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة والخفية ))، أورد فيه ثلاث آيات من القرآن، ثم حديث (( إنَّما الأعمال بالنيَّات ))، وقال: (( حديث صحيح متفق على صحته، ومجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو إحدى قواعد الإيمان وأول دعائمه وآكد الأركان، قال الشافعي رحمه الله: يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه، وقال أيضاً: هو ثلث العلم، وكذا قاله أيضاً غيرُه، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدِّها، فقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: اثنان، وقيل: حديث، وقد جمعتها كلَّها في جزء الأربعين، فبلغت أربعين حديثاً، لا يستغني متديِّن عن معرفتها؛ لأنَّها كلَّها صحيحة، جامعة قواعد الإسلام، في الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإنَّما بدأت بهذا الحديث تأسيًّا بأئمَّتنا ومتقدِّمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث بلا مدافعة أبو عبد الله البخاري صحيحه، ونقل جماعة أنَّ السلف كانوا يستحبُّون افتتاح الكتب بهذا الحديث؛ تنبيهاً للطالب على تصحيح النيَّة وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفيَّة، ورُوينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي
    ـ رحمه الله ـ قال: لو صنَّفت كتاباً بدأت في أوَّل كلِّ باب منه بهذا الحديث، ورُوينا عنه أيضاً قال: مَن أراد أن يصنِّف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث، وقال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم رحمه الله تعالى: كان المتقدِّمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث (الأعمال بالنيات) أمام كلِّ شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها )).
    وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/61): (( واتَّفق العلماء على صحَّته وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابَه الصحيح، وأقامه مقام الخُطبة له؛ إشارة منه إلى أنَّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة )).
    3 ـ قال ابن رجب: (( وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدِّين عليها، فروي عن الشافعي أنَّه قال: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفقه، وعن الإمام أحمد قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر (الأعمال بالنيات)، وحديث عائشة (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وحديث النعمان بن بشير: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن) )).
    وقال أيضاً (1/71) في توجيه كلام الإمام أحمد: (( فإنَّ الدِّين كلَّه يرجع إلى فعل المأمورات وترك المحظورات، والتوقف عن الشبهات، وهذا كلُّه تضمَّنه حديث النعمان بن بشير، وإنَّما يتمُّ ذلك بأمرين:
    أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنَّة، وهذا هو الذي تضمَّنه حديث عائشة: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
    والثاني: أن يكون العمل في باطنه يُقصد به وجه الله عزَّ وجلَّ، كما تضمَّنه حديث عمر: (الأعمال بالنيات).
    وأورد بن رجب نقولاً (1/61 ـ 63) عن بعض العلماء في الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، وأنَّ منهم من قال: إنَّها اثنان، ومنهم مَن قال: أربعة، ومنهم من قال: خمسة، والأحاديث التي ذكرها عنهم بالإضافة إلى الثلاثة الأولى حديث: (( إنَّ أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه ))، وحديث: (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ))، وحديث: (( إنَّ الله طيِّب لا يقبل إلاَّ طيِّباً ))، وحديث: (( لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ))، وحديث: (( لا ضرر ولا ضرار ))، وحديث: (( إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ))، وحديث: (( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ))، وحديث: (( الدِّين النصيحة )).
    4 ـ قوله: (( إنَّما الأعمال بالنيَّات ))، (إنَّما): أداة حصر، و(الـ) في (الأعمال) قيل: إنَّها خاصة في القُرَب، وقيل: إنَّها للعموم في كلِّ عمل، فما كان منها قُربة أثيب عليه فاعله، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب والنوم فإنَّ صَاحبَه يُثاب عليه إذا نوى به التقوِّي على الطاعة، والألف واللاَّم بـ(النيات) بدلاً من الضمير (ها)، أي: الأعمال بنيَّاتها، ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره معتبرة، أي: أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها، والنيَّة في اللغة: القصد، وتأتي للتمييز بين العبادات، كتمييز فرض عن فرض، أو فرض عن نفل، وتمييز العبادات عن العادات، كالغسل من الجنابة والغسل للتبرُّد والتنظُّف.
    5 ـ قوله: (( وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى ))، قال ابن رجب (1/65):
    (( إخبارٌ أنَّه لا يحصل له من عمله إلاَّ ما نواه، فإن نوى خيراً حصل له خير ٌ، وإن نوى شرًّا حصل له شرٌّ، وليس هذا تكريراً مَحضاً للجملة الأولى، فإنَّ الجملة الأولى دلَّت على أنَّ صلاحَ العمل وفسادَه بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلَّت على أنَّ ثوابَ العامل على عمله بحسب نيَّتِه الصالحة، وأنَّ عقابه عليه بحسب نيَّته الفاسدة، وقد تكون نيَّتُه مباحةً فيكون العملُ مباحاً، فلا يحصل له به ثوابٌ ولا عقاب، فالعملُ في نفسه: صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه المقتضية لوجوده، وثوابُ العامل وعقابُه وسلامته بحسب نيته التي بها صار العملُ صالحاً أو فاسداً أو مباحاً )).
    6 ـ قوله: (( فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدُنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه )).
    الهجرة من الهَجر وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة.
    وقوله: (( فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله )) اتَّحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّة وقصداً، فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، فافترقا، قال ابن رجب (1/72): (( لَمَّا ذكر أنَّ الأعمالَ بحسب النيَّات، وأنَّ حظَّ العامل من عمله نيته من خير أو شرٍّ، وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليَّتان، لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صورتُها واحدة، ويختلف صلاحُها وفسادُها باختلاف النيَّات، وكأنَّه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال )).
    وقال أيضاً (1/73): (( فأخبر النَّبيُّ أنَّ هذه الهجرة تختلف باختلاف النيَّات والمقاصد بها، فمَن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا لله ورسوله، ورغبةً في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو المهاجرُ إلى الله ورسوله حقًّا، وكفاه شرَفاً وفخراً أنَّه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأنَّ حصولَ ما نواه بهجرته نهايةُ المطلوب في الدنيا والآخرة.
    ومَن كانت هجرتُه من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأوَّل تاجرٌ، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.
    وفي قوله: (إلى ما هاجر إليه) تحقيرٌ لِمَا طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكره بلفظه، وأيضاً فالهجرةُ إلى الله ورسوله واحدةٌ، فلا تعدُّدَ فيها، فلذلك أعاد الجوابَ فيها بلفظ الشرط، والهجرةُ لأمور الدنيا لا تَنحصر، فقد يهاجرُ الإنسانُ لطلب دنيا مباحة تارة ومحرَّمة أخرى، وأفراد ما يُقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني كائناً ما كان )).
    7 ـ قال ابن رجب (1/74 ـ 75): (( وقد اشتهر أنَّ قصةَ مهاجر أمِّ قيس هي كانت سببَ قولِ النبَّيِّ : (من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها) وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخرين في كُتُبهم، ولَم نرَ لذلك أصلاً بإسناد يَصحُّ، والله أعلم )).
    8 ـ النيَّة محلُّها القلب، والتلفُّظ بها بدعة، فلا يجوز التلفُّظ بالنيَّة في أيِّ قُربة من القُرَب، إلاَّ في الحجِّ والعمرة، فله أن يُسمِّي في تلبيته ما نواه من قران أو إفراد أو تمتُّع، فيقول: لبَّيك عمرة وحجًّا، أو لبَّيك حجًّا، أو لبَّيك عمرة؛ لثبوت السنَّة في ذلك دون غيره.
    9 ـ مِمَّا يُستفاد من الحديث:
    1 ـ أنَّه لا عمل إلاَّ بنيَّة.
    2 ـ أنَّ الأعمال معتبرة بنيَّاتها.
    3 ـ أنَّ ثواب العامل على عمله على حسب نيَّته.
    4 ـ ضرب العالم الأمثال للتوضيح والبيان.
    5 ـ فضل الهجرة لتمثيل النَّبيِّ بها، وقد جاء في صحيح مسلم (192) عن عمرو بن العاص ، عن النَّبيِّ قال: (( أمَا علمتَ أنَّ الإسلامَ يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يهدم ما كان قبله؟ )).
    6 ـ أنَّ الإنسانَ يُؤجرُ أو يؤزر أو يُحرم بحسب نيَّته.
    7 ـ أنَّ الأعمال بحسب ما تكون وسيلة له، فقد يكون الشيء المباح في الأصل يكون طاعةً إذا نوى به الإنسان خيراً، كالأكل والشرب إذا نوى به التقوِّي على العبادة.
    8 ـ أنَّ العمل الواحد يكون لإنسان أجراً، ويكون لإنسان حرماناً.


    * * *

    الحديث الثاني
    عن عمر أيضاً قال: (( بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله ذات يوم إذ طَلَعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النَّبيِّ ، فأسنَد ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله : الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقتَ، فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لَم تكن تراه فإنَّه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلمَ من السائل، قال: فأخبرني عن أمَاراتِها؟ قال: أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان، ثمَّ انطلق فلبث مليًّا ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم )) رواه مسلم.
    1 ـ حديث جبريل هذا عن عمر انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، واتَّفقا على إخراجه من حديث أبي هريرة ، والإمام النووي ـ رحمه الله ـ بدأ أحاديث الأربعين بحديث عمر (( إنَّما الأعمال بالنيات ))، وهو أوَّل حديث في صحيح البخاري، وثنَّى بحديث عمر في قصة مجيء جبريل إلى النَّبيِّ ، وهو أوَّل حديث في صحيح مسلم، وقد سبقه إلى ذلك الإمام البغوي في كتابيه شرح السنة ومصابيح السنَّة، فقد افتتحهما بهذين الحديثين.
    وقد أفردت هذا الحديث بشرح مستقل أوسع من شرحه هنا.
    2 ـ هذا الحديث هو أوَّل حديث في كتاب الإيمان من صحيح مسلم، وقد حدَّث به عبد الله بن عمر، عن أبيه، ولتحديثه به قصة ذكرها مسلم بين يدي هذا الحديث بإسناده عن يحيى بن يَعمر قال:
    (( كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد ابن عبد الرحمن الحميري حاجَّين أو معتمرين،, فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنَّ صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قبلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنَّهم يزعمون أن لا قَدر وأنَّ الأمر أُنُف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرْهم أنِّي بريء منهم، وأنَّهم بُرآء منِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنَّ لأحدهم مثل أُحُد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمنَ بالقدر، ثم قال: حدَّثني أبي عمر بن الخطاب ))، وساق الحديث من أجل الاستدلال به على الإيمان بالقدر، وفي هذه القصة أنَّ ظهور بدعة القدرية كانت في زمن الصحابة، في حياة ابن عمر، وكانت وفاته سنة (73هـ) ، وأنَّ التابعين يرجعون إلى أصحاب الرسول في معرفة أمور الدِّين، وهذا هو الواجب، وهو الرجوع إلى أهل العلم في كلِّ وقت؛ لقول الله عزَّ وجلَّ:         ، وأنَّ بدعةَ القدرية من أقبح البدع؛ وذلك لشدَّة قول ابن عمر فيها، وأنَّ المفتي عندما يذكر الحكم يذكر معه دليله.
    3 ـ في حديث جبريل دليل على أنَّ الملائكةَ تأتي إلى البشر على شكل البشر، ومثل ذلك ما جاء في القرآن من مجيء جبريل إلى مريم في صورة بشر، ومجيء الملائكة إلى إبراهيم ولوط في صورة بشر، وهم يتحوَّلون بقدرة الله عزَّ وجلَّ عن الهيئة التي خُلقوا عليها إلى هيئة البشر، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في خلق الملائكة:     •       •          ، وفي صحيح البخاري (4857)، ومسلم (280) أنَّ النَّبيَّ رأى جبريل وله ستمائة جناح.
    4 ـ في مجيء جبريل إلى رسول الله وجلوسه بين يديه بيان شيء من آداب طلبة العلم عند المعلِّم، وأنَّ السائلَ لا يقتصر سؤاله على أمور يجهل حكمها، بل ينبغي له أن يسأل غيره وهو عالم بالحكم ليسمع الحاضرون الجواب، ولهذا نسب إليه الرسول في آخر الحديث التعليم، حيث قال: (( فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمكم دينكم ))، والتعليم حاصل من النَّبيِّ لأنَّه المباشر له، ومضاف إلى جبريل؛ لكونه المتسبِّب فيه.
    5 ـ قوله: (( قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله : الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً ))، أجاب النَّبيُّ جبريل عندما سأله عن الإسلام بالأمور الظاهرة، وعندما سأله عن الإيمان، أجابه بالأمور الباطنة، ولفظَا الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمع بينها في الذِّكر فُرِّق بينها في المعنى، وقد اجتمعا هنا، ففُسِّر الإسلام بالأمور الظاهرة، وهي مناسبة لمعنى الإسلام، وهو الاستسلام والانقيادُ لله تعالى، وفسِّر الإيمان بالأمور الباطنة، وهي المناسبة لمعناه، وهو التصديق والإقرار، وإذا أُفرد أحدُهما عن الآخر شمل المعنيين جميعاً: الأمور الظاهرة والباطنة، ومن مجيء الإسلام مفرداً قول الله عزَّ وجلَّ:                ، ومن مجيء الإيمان مفرداً قول الله عزَّ وجلَّ:              ، ونظير ذلك كلمتَا الفقير والمسكين، والبر والتقوى وغير ذلك.
    وأوَّل الأمور التي فُسِّر بها الإسلام شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وشهادة أنَّ محمداً رسول الله ، وهاتان الشهادتان متلازمتان، وهما لازمتان لكلِّ إنسيٍّ وجنيٍّ من حين بعثته إلى قيام الساعة، فمَن لم يؤمن به كان من أصحاب النار؛ لقوله : (( والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار )) رواه مسلم (240).
    وشهادة أن لا إله إلاَّ الله معناها لا معبود حقٌّ إلاَّ الله، وكلمة الإخلاص تشتمل على ركنين: نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، ففي أوَّلها نفي العبادة عن كلِّ من سوى الله، وفي آخرها إثبات العبادة لله وحده لا شريك له، وخبر (( لا )) النافية للجنس تقديره (( حق ))، ولا يصلح أن يُقدَّر (( موجود ))؛ لأنَّ الآلهة الباطلة موجودةٌ وكثيرة، وإنَّما المنفيُّ الألوهية الحقَّة، فإنَّها منتفيَةٌ عن كلِّ من سوى الله، وثابتة لله وحده.
    ومعنى شهادة أنَّ محمداً رسول الله، أن يُحبَّ فوق محبَّة كلِّ محبوب من الخلق، وأن يُطاع في كلِّ ما يأمر به، ويُنتهى عن كلِّ ما نهى عنه، وأن تُصدَّق أخباره كلُّها، سواء كانت ماضيةً أو مستقبلةً أو موجودةً، وهي غير مشاهدة ولا معاينة، وأن يُعبد الله طبقاً لِمَا جاء به من الحقِّ والهدى.
    وإخلاصُ العمل لله واتّباع ما جاء به رسول الله هما مقتضى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وكلُّ عمل يُتقرَّب به إلى الله لا بدَّ أن يكون خالصاً لله ومطابقاً لسنة رسول الله ، فإذا فُقد الإخلاصُ لم يُقبل العمل؛ لقول الله عزَّ وجلَّ:          ••  ، وقوله تعالى في الحديث القدسي: (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )) رواه مسلم (2985)، وإذا فُقد الاتِّباع رُدَّ العمل؛ لقوله : (( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718)، وفي لفظ لمسلم: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))، وهذه الجملة أعمُّ من الأولى؛ لأنَّها تشمل مَن فعل البدعة وهو مُحدثٌ لها، ومَن فعلَها متابعاً لغيره فيها.
    وستأتي الإشارة إلى شيء مِمَّا يتعلَّق بالصلاة والزكاة والصيام والحج في حديث ابن عمر: (( بُني الإسلام على خمس ))، وهو الحديث الذي يلي هذا الحديث.
    6 ـ قوله: (( قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه! )) وجه التعجُّب أنَّ الغالبَ على السائل كونه غير عالِم بالجواب، فهو يسأل ليصل إلى الجواب، ومثله لا يقول للمسئول إذا أجابه: صدقتَ؛ لأنَّ السائلَ إذا صدَّق المسئول دلَّ على أنَّ عنده جواباً من قبل، ولهذا تعجَّب الصحابةُ من هذا التصديق من هذا السائل الغريب.
    7 ـ قوله: (( قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ))، هذا الجواب مشتملٌ على أركان الإيمان الستة، وأوَّل هذه الأركان الإيمان بالله، وهو أساس للإيمان بكلِّ ما يجب الإيمان به، ولهذا أُضيف إليه الملائكة والكتب والرسل، ومَن لَم يؤمن بالله لا يؤمن ببقيَّة الأركان، والإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأنَّه سبحانه وتعالى متَّصفٌ بكلِّ كمال يليق به، منَزَّهٌ عن كلِّ نقص، فيجب توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته.
    وتوحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمور والتصرّف في الكون، وغير ذلك مِمَّا يتعلَّق بربوبيَّته.
    وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وغيرها من أنواع العبادة التي يجب إفراده بها، فلا يُصرف منها شيء لغيره، ولو كان ملَكاً مقرَّباً أو نبيًّا مرسَلاً، فضلاً عمَّن سواهما.
    وأمَّا توحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله من الأسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تكييف أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، كما قال الله عزَّ وجلَّ:          ، فجمع في هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، فالإثبات في قوله:     ، والتنزيه في قوله:      ، فله سبحانه وتعالى سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وهكذا يُقال في كلِّ ما ثبت لله من الأسماء والصفات.
    والإيمان بالملائكة الإيمانُ بأنَّهم خَلقٌ من خلق الله، خُلقوا من نور، كما في صحيح مسلم (2996) أنَّ رسول الله قال: (( خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدم مِمَّا وُصف لكم ))، وهم ذوو أجنحة كما في الآية الأولى من سورة فاطر، وجبريل له ستمائة جناح، كما ثبت ذلك عن رسول الله وتقدَّم قريباً، وهم خلقٌ كثيرٌ لا يعلم عددَهم إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، ويدلُّ لذلك أنَّ البيتَ المعمور ـ وهو في السماء السابعة ـ يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملَك لا يعودون إليه، رواه البخاري (3207)، ومسلم (259)، وروى مسلم في صحيحه (2842) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : (( يُؤتَى بجهنَّم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملَك يجرُّونها )).
    والملائكةُ منهم الموَكَّلون بالوحي، والموكَّلون بالقطر، والموكَّلون بالموت، والموكَّلون بالأرحام، والموكَّلون بالجنَّة، والموكَّلون بالنار، والموكَّلون بغير ذلك، وكلُّهم مستسلمون منقادون لأمر الله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون، وقد سُمِّي منهم في الكتاب والسنة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك ومنكر ونكير، والواجب الإيمان بمَن سُمِّي منهم ومَن لَم يسمَّ، والواجب أيضاً الإيمان والتصديق بكلِّ ما جاء في الكتاب العزيز وصحَّت به السنَّة من أخبار عن الملائكة.
    والإيمانُ بالكتب التصديق والإقرار بكلِّ كتاب أنزله الله على رسول من رسله، واعتقاد أنَّها حقٌّ، وأنَّها منَزَّلة غير مخلوقة، وأنَّها مشتملة على ما فيه سعادة من أُنزلت إليهم، وأنَّ مَن أخذ بها سلم وظفر، ومن أعرض عنها خاب وخسر، ومن هذه الكتب ما سُمِّي في القرآن، ومنها ما لم يُسمَّ، والذي سُمِّي منها في القرآن التوراة والإنجيل والزبور وصُحف إبراهيم وموسى، وقد جاء ذكر صحف إبراهيم وموسى في موضعين من القرآن، في سورتَي النجم والأعلى، وزبور داود جاء في القرآن في موضعين، في النساء والإسراء، قال الله عزَّ وجلَّ فيهما:
        ، وأمَّا التوراة والإنجيل فقد جاء ذكرهما في كثير من سُوَر القرآن، وأكثرهما ذكراً التوراة، فلَم يُذكر في القرآن رسول مثل ما ذُكر موسى، ولم يُذكر فيه كتاب مثل ما ذُكر كتاب موسى، ويأتي ذكره بلفظ (( التوراة ))، و(( الكتاب ))، و(( الفرقان))، و(( الضياء ))، و(( الذِّكر )).
    ومِمَّا يمتاز به القرآن على غيره من الكتب السابقة كونه المعجزة الخالدة، وتكفُّل الله بحفظه، وسلامته من التحريف، ونزوله منجَّماً مفرَّقاً.
    والإيمانُ بالرُّسل التصديق والإقرارُ بأنَّ الله اصطفى من البشر رسُلاً وأنبياء يهدون الناسَ إلى الحقِّ، ويُخرجونهم من الظلمات إلى النور، قال الله عزَّ وجلَّ:        ••  .
    والجنُّ ليس فيهم رسُل، بل فيهم النُّذُر، كما قال الله عزَّ وجلَّ:                          •                                                   ، فلم يذكروا رسلاً منهم، ولا كتباً أنزلت عليهم، وإنَّما ذكروا الكتابين المنزلين على موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولم يأت ذكر الإنجيل مع أنَّه منَزَّلٌ من بعد موسى؛ وذلك أنَّ كثيراً من الأحكام التي في الإنجيل قد جاءت في التوراة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: (( ولم يذكروا عيسى؛ لأنَّ عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمِّم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا:       )).
    والرسلُ هم المكلَّفون بإبلاغ شرائع أنزلت عليهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ:          ، والكتاب اسم جنس يُراد به الكتب، والأنبياء هم الذين أوحي إليهم بأن يُبلِّغوا شريعة سابقة، كما قال الله عزَّ وجلَّ:           •             الآية، وقد قام الرسل والأنبياء بتبليغ ما أُمروا بتبليغه على التمام والكمال، كما قال الله عزَّ وجلَّ:         ، وقال:       •      •                          ، قال الزهري: (( من الله عزَّ وجلَّ الرسالة، وعلى رسول الله البلاغ، وعلينا التسليم )) أورده البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، باب قول الله عزَّ وجلَّ:                رِسَالاَتِه   (13/503 ـ مع الفتح).
    والرسلُ منهم من قُصَّ في القرآن، ومنهم من لم يُقصص، كما قال الله عزَّ وجلَّ:             ، وقال الله عزَّ وجلَّ:        •    •     ، والذين قُصوا في القرآن خمسة وعشرون، منهم ثمانية عشر جاء ذكرهم في سورة الأنعام في قوله تعالى:     •      •   •             •              •       •                .
    والسبعة الباقون: آدم، وإدريس، وهود، وصالح، وشعيب، وذو الكفل، ومحمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.
    والإيمانُ باليوم الآخر التصديقُ والإقرار بكلِّ ما جاء في الكتاب والسنَّة عن كلِّ ما يكون بعد الموت، وقد جعل الله الدُّورَ دارين: دار الدنيا والدار الآخرة، والحدُّ الفاصل بين هاتين الدارين الموت والنفخ في الصور الذي يحصل به موت مَن كان حيًّا في آخر الدنيا، وكلُّ مَن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والحياة بعد الموت حياتان: حياة برزخية، وهي ما بين الموت والبعث، والحياة بعد الموت، والحياة البرزخية لا يعلم حقيقتها إلاَّ الله، وهي تابعة للحياة بعد الموت؛ لأنَّ في كلٍّ منهما الجزاء على الأعمال، وأهل السعادة منعمون في القبور بنعيم الجنَّة، وأهل الشقاوة معذَّبون فيها بعذاب النار.
    ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالبعث والحشر والشفاعة والحوض والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وغير ذلك مِمَّا جاء في الكتاب والسنَّة.
    والإيمان بالقدر الإيمانُ بأنَّ الله قدَّر كلَّ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، وله مراتب أربعة:
    ـ علم الله أزلاً بكلِّ ما هو كائن.
    ـ وكتابته المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
    ـ ومشيئته كلّ مقدَّر.
    ـ وخلق الله وإيجاده لكلِّ ما قدَّره طبقاً لِمَا علمه وكتبه وشاءه.
    فيجب الإيمانُ بهذه المراتب واعتقاد أنَّ كلَّ شيء شاءه الله لا بدَّ من وجوده، وأنَّ كلَّ شيء لم يشأه الله لا يُمكن وجوده، وهذا معنى قوله : (( واعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك ))، وسيأتي في الحديث التاسع عشر.
    8 ـ قوله: (( فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك ))، الإحسان أعلى الدرجات، ودونه درجة الإيمان، ودون ذلك درجة الإسلام، وكلُّ مؤمن مسلم، وكلُّ محسن مؤمن مسلم، وليس كلُّ مسلم مؤمناً محسناً، ولهذا جاء في سورة الحجرات:    •              ، وجاء في هذا الحديث بيان علوِّ درجة الإحسان في قوله: (( أن تعبد الله كأنَّك تراه )) أي: تعبدَه كأنَّك واقفٌ بين يديه تراه، ومَن كان كذلك فإنَّه يأتي بالعبادة على التمام والكمال، وإن لَم يكن على هذه الحال فعليه أن يستشعر أنَّ الله مطَّلعٌ عليه لا يخفى منه خافية، فيحذرَ أن يراه حيث نهاه، ويعمل على أن يراه حيث أمرَه.
    9 ـ قوله: (( قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ))، اختصَّ الله بعلم الساعة، فلا يعلم متى تقوم الساعة إلاَّ الله سبحانه وتعالى، قال الله عزَّ وجلَّ:  •               •           •     ، وقال تعالى:          ، ومنها علم الساعة، ففي صحيح البخاري (4778) عن عبد الله بن عمر قال: قال النَّبيُّ : (( مفاتيحُ الغيب خمسة، ثم قرأ  •      ))، وقال تعالى:
                         •                    ••    .
    وجاء في السنَّة أنَّ الساعةَ تقوم يوم الجمعة، أمَّا من أيِّ سنة؟ وفي أيِّ شهر من السنة؟ وفي أيِّ جمعة من الشهر؟ فلا يعلم ذلك إلاَّ الله، ففي سنن أبي داود (1046) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلاَّ وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقاً من الساعة إلاَّ الجنّ والإنس )) الحديث، وهو حديث صحيح رجاله رجال الكتب الستة، إلاَّ القعنبي فلم يخرج له ابن ماجه.
    وقوله: (( ما المسئول عنها بأعلم من السائل )) معناه أنَّ الخلق لا يعلمون متى تقوم، وأنَّ أي سائل وأيَّ مسئول سواء في عدم العلم بها.
    10 ـ قوله: (( قال: فأخبرني عن أمَاراتِها؟ قال: أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان ))، أماراتها: علاماتها، وعلامات الساعة تنقسم إلى قسمين: علامات قريبة من قيامها، كخروج الشمس من مغربها، وخروج الدجَّال، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء وغيرها، وعلامات قبل ذلك، ومنها العلامتان المذكورتان في هذا الحديث.
    ومعنى قوله: (( أن تلد الأَمَة ربَّتها )) فُسِّر بأنَّه إشارة إلى كثرة الفتوحات وكثرة السبي، وأن من المسْبيات مَن يطؤها سيِّدُها فتلد له، فتكون أمَّ ولد، ويكون ولدها بمنزلة سيِّدها، وفسِّر بتغير الأحوال وحصول العقوق من الأولاد لآبائهم وأمَّهاتهم وتسلُّطهم عليهم، حتى يكون الأولاد كأنَّهم سادة لآبائهم وأمَّهاتهم.
    ومعنى قوله: (( وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان )) أنَّ الفقراء الذين يرعون الغنم ولا يجدون ما يَكتسون به تتغيَّر أحوالهم وينتقلون إلى سكنى المدن ويتطاولون فيها بالبنيان، وهاتان العلامتان قد وقعتَا.
    11 ـ قوله: (( ثمَّ انطلق فلبث مليًّا ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم )) معنى مليًّا: زماناً، فقد أخبر النَّبيُّ أصحابَه عن السائل بأنَّه جبريل عقب انطلاقه، وجاء أنَّه أخبر عمر بعد ثلاث، ولا تنافي بين ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ أخبر الحاضرين ولم يكن عمر معهم، بل يكون انصرف من المجلس، واتَّفق له أنَّه لقي النَّبيَّ بعد ثلاث فأخبره.
    12 ـ مِمَّا يُستفادُ من الحديث:
    1 ـ أنَّ السائلَ كما يسأل للتعلُّم، فقد يسأل للتعليم، فيسأل مَن عنده علم بشيء من أجل أن يسمع الحاضرون الجواب.
    2 ـ أنَّ الملائكةَ تتحوَّل عن خِلقتِها، وتأتي بأشكال الآدميِّين، وليس في هذا دليل على جواز التمثيل الذي اشتهر في هذا الزمان؛ فإنَّه نوعٌ من الكذب، وما حصل لجبريل فهو بإذن الله وقدرته.
    3 ـ بيان آداب المتعلِّم عند المعلِّم.
    4 ـ أنَّه عند اجتماع الإسلام والإيمان يُفسَّر الإسلام بالأمور الظاهرة، والإيمان بالأمور الباطنة.
    5 ـ البدء بالأهمِّ فالأهمِّ؛ لأنَّه بُدىء بالشهادَتين في تفسير الإسلام، وبدىء بالإيمان بالله في تفسير الإيمان.
    6 ـ أنَّ أركان الإسلام خمسة، وأنَّ أصولَ الإيمان ستة.
    7 ـ أنَّ الإيمان بأصول الإيمان الستة من جملة الإيمان بالغيب.
    8 ـ بيان التفاوت بين الإسلام والإيمان والإحسان.
    9 ـ بيان علوِّ درجة الإحسان.
    10 ـ أنَّ علم الساعة مِمَّا استأثر الله بعلمه.
    11 ـ بيان شيء من أمارات الساعة.
    12 ـ قول المسئول لِمَا لا يعلم: الله أعلم.
    * * *

      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء 08 مايو 2024, 15:41